الجمعة، 21 مارس 2014

خيوط اللعبة | بين نبيه المجلس وشيشرون الجنبلاطي - سامي كليب - جريدة الأخبار

خيوط اللعبة | بين نبيه المجلس وشيشرون الجنبلاطي

سامي كليب
للمرء أن يتخيّل بماذا فكّر نبيه بري ورفيق دربه وليد جبنلاط وهما ينصتان لخطابات نيل الثقة. للمرء أن يتخيّل لو تحادث رئيس المجلس ورئيس جبهة النضال، بعد نيل الثقة، ماذا يفعلان؟ سيضحكان كثيراً. سيستنبطان، كعادتهما، «قفشات» و«نكات» لا حصر لها. لا أحد، أكثر منهما، يعرف أسباب بعض ما يقوله عدد من النواب، ولا أحد، غيرهما، يدرك أن الكلام المقروء من على الورق سيبقى فقط على الورق.
يقال إن جنبلاط فكّر بالفيلسوف الروماني والخطيب اللاتيني الشهير شيشرون. ضحك. سجّل بعض الملاحظات. يقال إنه فكر أيضاً بداروين ونظرية التطور الإنساني. ابتسم. وفكّر بكتاب الحيوان للجاحظ. هذا فعلاً ما فكّر به.
يدرك جنبلاط، كما بري، أن جلّ جهابذة الخطابة أمامهم لا يعرفون أين تقع القرم، ولا أسباب الانهيارات السريعة للمسلحين في سوريا، ولا كنه السيطرة، من دون ضجيج، على يبرود، ولا عمق التفاهمات الجارية حالياً بين إيران والغرب. العالم يرسم خطوطاً جديدة للشرق الأوسط، وبعض الخطابات يرسم مستقبلاً لا يتعدى باب التبانة وجبل محسن والطريق الجديدة والضاحية.
تعاقبت أجيال على المجلس النيابي. تعاقبت أحداث وحروب على المحيط العربي. تفاهم العالم وتناقض. انتهت الحرب الباردة ثم عادت. أما في المجلس النيابي فالسياسة الدولية والعالمية والكونية تتوقف عند 14 و8 آذار، أو بالأحرى عند ما بقي منهما.
يتقن نبيه بري فن إدارة المجلس. يتسامح حين يشاء، ويقمع عندما يريد. في الحالتين يبقى الحَكَم.
دخل السياسة رغم نصائح الوالد بتجنّبها. صار سيّد اللعبة فيها. لا بأس أن يبدي إعجاباً بخطيب جديد. يحبّ نبيه بري اللغة. طيّعة هي بيده. باكورة كتاباته كانت مجموعة قصصية من 22 قصة. احترقت مع كتاب آخر كان معدّاً للنشر حين كانت الحرب الأهلية أو الاجتياحات الإسرائيلية تحرق كل شيء.
ليس مهماً إن اختلفت المواقف مع الشيخ سامي الجميل. الشاب الكتائبي خطيب ممتاز. حيوي. مندفع. أتقن فن إقناع الآخرين بأفكاره. تمرَّس باستخدام حركات الجسد والعينين. يخرج عن النص حين يشاء ويبقى متماسك الأفكار حين يريد. يقول جهاراً ما يفكر به كثيرون. بين سامي الجميل وبعض خطباء فريق 14 آذار مسافة من الكاريزما والشباب والعنفوان والاندفاع. كان سامي الجميل أبرزهم بلا منازع. لا بأس إن اختلف سيد المجلس سياسياً مع الخطيب الكتائبي. غالباً ما كان الشيخ أمين الجميل يلجأ الى الأستاذ لحل قضية صغيرة أو لطرح مشروع كبير بحجم الرئاسة والنيابة. حصل ذلك مباشرة بعيد وفاة بيار الجميل الابن الذي كان هو الآخر يعد بالكثير.
يدرك نبيه بري حساسية المرحلة المنخورة نخراً بالفتن المذهبية. يتدخّل حين ينحرف الخطاب صوب شبح الفتنة. يقمع. يخرج الصوت الرخيم بكلمات أرخم. ينصت له الجميع فيعود ليفسح في المجال أمام الخطيب. يعرف أن ثمة ما يُخطب هنا ليُسمع هناك من بيروت الى طرابلس فالسعودية وأميركا. لا بأس. فخطيب آخر له من فن الكلام ريادة، ومن فنون توجيه السهام خبرة رماة اليونان سيكون بالمرصاد. الحاج محمد رعد يعرف كيف يدافع عن المقاومة. يدرك كيف يضع الخصم في موقع الاتهام أو قل... العمالة. تصبح اللغة طيّعة في خطاب الحاج الذي لا توازي رصانته سوى تلك الابتسامة الذكية المقاربة الخبث حين تتوجه صوب الخصم، والمؤاخية العشق حين تروي المقاومة.
لا مجال لترك المجلس يجنح صوب المذهبية. هذا هاجس نبيه بري منذ شبابه. لم يتردّد في التناقض مع السيد موسى الصدر، أي مع ذاك القائد الجميل الطلّة النقي الروح والتفكير قبل أن يصبح رفيق دربه. اعتقد بري قبيل وصول السيد الى لبنان أنه جاء يناهض الزعيم جمال عبد الناصر والحركة الوطنية والعروبة. سرعان ما اكتشف العكس، فصار الأقرب والأحرص ورمز استمرارية رسالة الإمام الذي لا يزال سر اختفائه في ليبيا بعيداً عن اهتمام المحاكم الدولية، لأنه لم تكن ثمة مصلحة عند المحاكم بالبحث عن الخاطف أو القاتل.
يستمع سيد المجلس الى ديناصورات الخطابة أو الى تلامذتها الجدد. يبتسم. يجتاحه الملل. يستمر. تأتيه أخبار سوريا وأوكرانيا وإيران. ينظر صوب جنبلاط. يضحكان.
لم يوح نبيه بري، خلال سنوات الأزمة والحرب في سوريا، أنه طرف. سعى لحفظ البلد من اختلال التوازنات واختلال العقول. أدرك مع سيد المقاومة حسن نصر الله أن أي خطوة ناقصة قد تطيح البلد وأهله. بعض خصومه، وربما بعض السوريين، فهم العكس في لحظة وهن.
اعتقد البعض أنه ينتظر مآل الأمور في سوريا ليحدد موقفاً. ظن خصوم سوريا أن استمالة بري ستناقض انخراط حزب الله في الحرب السورية. اعتقدوا بإمكانية اللعب على التناقضات. كان بري يقيس المواقف بميزان الذهب. وظّف قناة NBN لنصرة الجيش السوري وحلفائه. أبقى خيوط التواصل مفتوحة على نحو واسع عبر بعض وزرائه. تولّى وزير الصحة السابق علي حسن خليل مسؤولية التنسيق الإنساني والطبي لمساعدة السوريين في محنتهم. تولى وزير الخارجية السابق عدنان منصور، بتعليمات بري، مسؤوليات التصدي، وفي الكثير من المرات منفرداً، لهجمة نظرائه العرب على سوريا. كان التنسيق بين منصور ووزير الخارجية السوري وليد المعلم أكثر مما يعرف كثيرون. رئيس حركة أمل كان الراعي والموجّه. الحركة لم تكن بعيدة عن الأرض.
حين التقى نبيه بري برئيس الوزراء القطري السابق، الشيخ حمد بن جاسم، سمع أن النظام السوري سيسقط بعد شهرين. قال المسؤول القطري إن النظام لن يستمر الى ما بعد شهر رمضان. ابتسم بري، وقال: سنلتقي بعد رمضانين وثلاثة ونرى. شرح وفصّل، لم يكن لدى السامع آنذاك استعداد للإنصات.
لم تنس دمشق ولن تنسى. في الخيارات الكبرى تعود الاستراتيجيات الكبرى.
في سوريا يُُرسم تاريخ جديد وصعب. في المجلس يرسم بعض النواب تاريخاً لزواريب محلية. يتفنّن بعضهم في طعن المقاومة. انخراط حزب الله في الحرب السورية منحهم فرصة ذهبية لتحقيق حلم يراود البعض منذ سنوات. لا شك أن نبيه بري كان يفكر بالاجتياح الإسرائيلي عام 1982. لا شك أنه تذكّر تلك اللحظة التي أخذ رشاشه من حارسه وركض صوب المطار. لا شك أنه فكر كيف أنه وجنبلاط فتحا الجبل على الضاحية، وأنه والسيد نصر الله يدركان أسباب ما يُقال الآن.
عاش الأستاذ لحظات انكسار ومجد. لم ينس أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أخذ آخر حمّام في منزله، وارتدى بعضاً من ثيابه قبل الخروج الكبير للفلسطينيين من لبنان بعد الاجتياح. في رواياته التي احترقت، واحدة عن الجزائر. في منزله قاعة باسم المناضل العربي الكبير أدهم خنجر. في ذاكرته صور مضيئة لدحر العدو من خلدة الى الجنوب. في قلبه شعر لبلال فحص ورفاقه. في واقعه ابتسامة على واقع صار فيه من يدحر العدو عرضة لهجمات نواب الشعب... أو بالأحرى نواب المواطنين، طالما أن كلمة شعب صارت تزعج البعض.
اعتاد بري على القساوة. يقال إن والده لم يقبِّله طيلة حياته أكثر من أربع مرات. سيراليون علّمت الوالد شظف العيش قبل أن يصبح ثرياً. ولبنان علّم بري شظف الطريق قبل أن تنجلي صورة المنطقة. قريباً قد تنجلي. لا بأس من تبادل الابتسامات في الطريق مع جنبلاط. فليكمل الشيشرونيون خطاباتهم. المهم مرّ البيان الوزاري بخير. فتحت معركة الرئاسة. هذه هي المعركة الأهم. بعض الجواب سيأتي من سوريا. ربما قريباً.

0 التعليقات:

إرسال تعليق